الشافعي.. رائد الرواية العربية المصورة
قبل أن يضع قدميه في هذه الطريق، ويصطنع لنفسه مسلكا غير مألوف في الثقافة العربية أو الفن المعاصر، كانت القصة المصورة قبل مجدي الشافعي في العالم العربي ذات وجهان اثنان دون ثالث، إما قصة منقولة عن أقاصيص الغرب البعيد بما تحمل من ثقافة مغايرة وطبيعة مختلفة، وفي بعض الأحيان كان هذا النقل نقلا مشوها عن الأصل الأجنبي، الذي غالبا كان لا يناسبنا، فكانت قصص الأبطال الخارقين، والخارجين عن القانون والأعراف، أو المتلاعبين بالطبيعة البشرية هي السمة الغالبة على معظم ما يتم نقله إلينا من أشكال هذا الفن.
ورغم محاولات الحذف والتعديل وإعادة التسمية والتشكيل والتعريب والتدجين لما ينقل حتى يصبح على صورة تقبلها الذائقة العربية ولا تهدد وعي المتلقي الذي كان غالبا من الأطفال والناشئة، فجاءت التعديلات والتشكيلات باهتة الصورة وتبتعد عن الأصل كثيرا جدا.
ومن هذا ما حدث مع قصص ( سوبر مان ) في الإصدار العراقي الذي سموه الخارق، ورسموا له شاربا عربيا غيَر الشكل الأصلي تماما بل أن النسخة المصرية المنشورة في مجلة سمير أو الصادرة في لبنان فيما بعد سمته نديم نبيل، فأصبح نديم هذا مواطنا أمريكياً ذا اسم عربي في مجتمع عربي. وهو ما كان يشبه اقتصاص جزءا من صورة لوضع آخر من صورة لا تشبه الأخرى بأي شكل.
ربما هذا المثال حصل مع شخصيات أخرى مثل (بات مان) الذي أصبح الوطواط وتم تغيير اسم الشخصية لاسم عربي آخر وهكذا سارت الأمور مع الغالبية الأخرى من الشخصيات.
وعلي نفس النسق محاولات مجلة سمير المصرية الرائدة في تعريب الكوميكس -فن القصة المصورة- مع العديد من الشخصيات القصصية الأخرى مثل ( تان تان) و(ميكى ) و(فلاش جوردون) و(ليك اوريانت ) و(شيك بيل) و(لاكي لوك) وغيرها الكثير والكثير جدا مما نال قدرا لابأس به من النجاح قد يرضي غرور القائمين على تلك التجارب، والتي استمرت وامتدت إلي عدد آخر من المجلات المصرية والعربية التي نقلت كذلك من التجربة الفرانكوبلجيكية، مثل باسم السعودية وماجد الإماراتية وغيرها.
وأما الوجه الآخر للقصة المصورة في وطننا العربي فكانت الشخصيات العربية التي ألفها ورسمها المؤلفون والرسامون العرب، فتجد عددا كبيرا من كتاب السيناريو المتميزين، مثل نبيل فاروق وأحمد خالد توفيق وعبد الحميد عبدالمقصود وغيرهم، وفي مجال رسوم القصص المصورة تجد عددا لا بأس به من الفنانين قد أخذوا على عاتقهم فن شخصنة القيم والمفاهيم وربما الواقع العربي، مثل فواز الذي له رصيد كبير من الشخصيات المصورة، مثل الشخصية الرئيسية لمجلة باسم السعودية وحمود وشخصيات فريق البحث الجنائي في عدد من السنوات بمجلة ماجد الإماراتية، وتوت في علاء الدين المصرية، وبلية العجيب وشقلوب في روايات مصرية للجيب، وعددا مهولا آخر من الشخصيات، وكذلك الفنان المصري اللبناني معلوف الذي ابتكر عددا لابأس به من الشخصيات مثل الشخصية الرئيسية لمجلة بلبل المصرية وبمبة في باسم السعودية وشهاب قائد السيارة السهم بنفس المجلة، وأعماله المختلفة في روايات مصرية للجيب.
ومثل هذان النموذجان هناك أعمال لفنانين عظام مثل عبدالعال، وعبد الشافي سيد وسعدالدين شحاته ووليد نايف، الذي صمم شخصية مجلة علاء الدين الرئيسية ومازال يرسمها حتى الآن . وهناك أيضا أحمد الخطيب وبرجي وفارس قرة بيت وأمنة الحمادي، الأسماء التي حاولت في هذا المضمار كبيرة وكثيرة على الحصر ولا يتسع هذا المقام لها.
ورغم ذلك يمكننا أن نخلص بأريحية أن هذه المحاولات على كثرتها كانت تدور في فلك الطفل ولا تستهدف جمهورا غيره على الرغم من أن فن الكوميكس- القصة المصورة- وفي الخارج ينحو مناحيا كثيرة وعديدة ويستهدف جمهورا من جميع الفئات والأصناف، بكل الاشكال والألوان، الأمر الذي لم نعرفه يوما حتى جاء مجدي الشافعي.
تأثر في البداية بالكوميكس المستقل في أوربا وأمريكا، ثم افتتح مدرسته الخاصة في هذا الفن بجميع معطياته وأفكاره ومنهاجه الخاص في هذا المجال، وكانت باكورة إنتاجه رواية (مترو) المصورة والتي أزعم أنها كانت سابقة وليس لها مثيل في العالم العربي.
ويمكننا حتى أن نؤرخ لفن القصة المصورة لما قبل وما بعد( مترو)، فقد اختلفت الأمور بعدها تماما حتى نظرة الفنانين أنفسهم للأمر اختلف كثيرا، كما أن (مترو) جرت هذا الفن جرا من المنطقة الدافئة المعهودة والتى كانت معظم الأعمال المعاصرة منقوعة فيها حتى الثمالة، فقبل مترو كانت القصص المصورة أليفة وطفولية لا تحب المخاطرة أو مغادرة الأسوار المبنية حولها بأي حال. أفكار (مترو ) كانت غير تقليدية ومفاجئة وليست مألوفة للمجتمع العربي الأمر الذي لم يحتمل هذا الآمر وحاكم الرواية وكاتبها وأصدر حكما بالحظر للرواية والغرامة للكاتب عام 2004.
القصة والرواية المصوران
تختلف الرواية المصورة عن القصص التي تنشرها المجلات والدوريات المختلفة من حيث الشكل الفني، هذا غير المتلقى المختلف الذي تستهدفانه، شكل كادرات الرسم وتناول الشخصيات ووتيرة الأحداث، وكذلك الأغراض النهائية التي تستهدفها كل واحدة منهما. فبينما تبدو القصة فرخا صغير يلهو في الطرقات يلقّط الحب من هنا وهناك، تكاد تكون الرواية المصورة رُخاً أسطوريا، لا يرتضي بالوجبات والأهداف الصغيرة بأي شكل كان، فتجد الرواية المصورة تشبه الأفلام السينمائية في تنسيق المناظر وتحركات الأشخاص وتوزيع الظلال والأنوار.
فيحكي كل عنصر وكل خط شيئا من القصة وتروي كل تفصيلة خبرا ما، وبينما قد تحتوى الصفحة الواحدة من القصة المصورة على أربعة أو ستة كادرات كما أن عدد صفحاتها لا تتجاوز الاثنان او الأربع صفحات على اقصى تقدير، حسبما تقتضي طبيعة المنشورة، وذلك يمثل قيودا في التناول والعرض ولا تتشابه مع الرواية المصورة التي تحلق في سماء من الحرية، تفرد لها الصفحات وتتعدد المشاهد والتتابعات.
مجدي الشافعي صانعا للرواية المصورة
رسم مجدي الشافعي في بداياته أعمالا كثيرة قصيرة في المجلات المختلفة، أبرزها أعماله في علاء الدين المصرية، وبعد أن أنتج مترو التي عاني حينها فترة صعبة ثم لاقى لاحقا هو وروايته احتفاء جديرا بكليهما بعد ثورة يناير 2011 ، الآمر الذي أخرجه من حالة الصدمة جراء ما تعرض له النشر الأول لمترو سواء كقصة كاملة أو أجزاء منفصلة كما حدث في ملحق جريدة الدستور المصرية في إصداره الثاني.
وربما كانت صفة الجدل مشتركة بين مجدي والدستور ورئيس تحريرها الكاتب إبراهيم عيسى، والذي أصدر لاحقا الدستور بنسخته اليومية قبل أن يترك الجريدة للبرنامج التليفيزيوني وجريدته المقال.
وقد حرص عيسى على نشر أعمال الشافعي في الدستور بجميع أشكالها سواء قصصا قصيرة أو طويلة، حتى كان نشره لأجزاء من مترو بالجريدة، رغم أن إبراهيم كان يعتقد أن أعمال الشافعي تشبه الأجنبية وليست من النوع المألوف للشارع المصري.
بعد فترة من الثورة التي شارك فيها الفنان المصري حتى أنه تعرض لإصابة أثناءها وكسورا في ذراعه، وعلى الرغم أن تلك الثورة لم تكن مجرد حدث قابله وخرج منه بعظام فيها كسور ,بل تجاوز الأمر إلى قناعة مهمة، حيث رأى أنها تاريخ وحدث لا يتكرر بسهولة، كما أن نظرة المجتمعات لمثل تلك الأحداث تتغير وتتبدل بمرور الوقت وتبدل المصالح، فتجد شيطنة لأشخاصها وتحقيرا لأبطالها يحول المطالب بالحرية إلى متمرد ويحول الآبي الشجاع إلي نزق متهور.
وهكذا رأى الحاجة الماسة إلى سرد روايته الخاصة للأحداث والتأكيد علي ما يراه بخصوص الأحداث المحيطة به من كل جانب باستخدام سلاحه الوحيد ,الرواية المصورة. وهنا بدأ بعد الثورة في العمل على روايته الثانية الجاسوس الإنجليزي التي تتناول ثورة أخرى وقعت في مصر هي ثورة عرابي.
الشخوص والأحداث عند مجدي الشافعي
يتحدث الشافعي عن طبيعة الشخصيات في رواياتهـ فيقول أنه قبل الرسم يضع تصورا كاملا لها ولطبيعتها، ثم يحضر الحياة للشخوص من خلال الصفات والسمات التي يلتقطها من شخوص حياته اليومية ودائرته الخاصة، شخصية النديم في الجاسوس الإنجليزي على سبيل المثال يقول د.مجدي أنها تحمل صفات وسمات صديقين له أحدهما محامي والآخر صديق يجالسه في المقهى بشكل يومي.
وهو لا يتوقف عند ذلك بل أنه أحيانا يغير من مجرى أحداث قصصه من خلال تغيير تحدثه شخصية ما، حتى إن لم يكن ذلك واردا في التحضير الأولي للشخصية، فتتحول الشخصيات الثانوية إلى أبطال والشخصيات المحورية إلى شخصيات عابرة أحيانا وفق أحساسه بالشخوص والحدث الذي يتزايد مع معايشته لها طوال فترة التنفيذ ودور وطبيعة كل منها وفق المتغيرات المختلفة.كما يدلل الشافعي بشخصيته (ساندرو) بالجاسوس الإنجليزي التي كان مقدرا لها أن تكون شخصية ثانوية بالرواية الا أن طبيعة الشخصية جعلتها مع مرور الوقت فاعلة أساسية بالرواية.
ونخلص من ذلك إلى أن حيوية الشخوص في روايات مجدي الشافعي لا تتوقف عند التناول المباشر بل أنها تتحول إلى واجهة لفكره هو نفسه وفكر الناس من حوله. وتصل بالأخير لتكون الناطق بلسان حال مشروعه الفكري .
إن ما يحدث للشخصيات من تطوير وتعديل قد يحدث دون وعي أحيانا، ويكون استسلاما لتيار الاحداث وتطورات الحكاية المتواترة، إلا أن الإثارة التي تعقب ذلك هي التي تجر القارئ جرا نحو استكمال قراءته , وأن ينتظر المزيد من صفحة لأخرى , ومن مشهد لآخر بالقدر الذي يعتريه من دهشة تصاحب طبيعة التناول المختلف.
ذات مرة كنت أحمل نسخة من روايته الجاسوس الإنجليزي عائدا من مهرجان الإسكندرية للقصة المصورة (اليكس كوميكس)، المهرجان الشقيق للنسخة الأقدم والأكبر (كايرو كوميكس) بالقاهرة والتي أسسها وساهم فيها الشافعي بنفسه منذ الدورة الأولي في 2021، استوقفني أحدهم وأنا اقرأ الكتاب في القطار ليسألني عن هذا الذي أقرأه وما هو؟ فلم يرى مثله من قبل ..ربما لم يكن الرجل من هواة القراءة أصلا ولكن شكل الكتاب وطبيعته غير المألوفة ولا التقليدية جعلته يستوقف غريبا ليسأله عنه، بل ويسأل كيف يحصل على نسخته.
إذن بوابة الدهشة والمفاجأة التي ستقابلها في الرواية المصورة للشافعي ستجدها في كل شبر وركن من الكتب شخوصا حية.. أحداثا واقعية تشعر فيها بحرارة الأجسام وتوارد الأفكار وتنفس الابطال حولك في كل مكان.
يقول الشافعي إن الخطوط العريضة للأحداث في أعماله تدور حول تناوله لما حوله من أحداث وهو ما يظهر جليا في روايته الاولى مترو يكون الحدث الرئيسي حول قيام مهندس اتصالات بسرقة بنك اثناء فترة مصر مبارك.
فحول كساد عمل البطل الذي يحيا في فترة مليئة بالإحباطات –حول-أحلامه الى كوابيس دفعته للتخطيط للسرقة .وربما يكون البنك هنا معادلا موضوعيا للأحلام والامنيات التي تكسرت والواقع المر الذي كان يعيش فيه.
وتتداعى الأحداث كأسطر أغنية تتداعي حول كلمة أو كلمتان ثم تصير فجأة كيانا كبيرا بناء متكاملا.
في عمليه التاليين الجاسوس الإنجليزي بجزئيه يقوم الشافعي بسبر أغوار التاريخ فهو لا يهتم بالحاضر وحده ,.ويؤكد على بطولة عرابي وثورته التي تصير اطارا عاما للأحداث في الروايتين كما كان مبارك حاضرا غائبا في روايته الأخرى مترو، وتصبح تلك الخطوط العريضة مقياسا ومؤشرا وبوصلة للتيار العام السائد بالقصة. وتتدور حولها دوافع الشخصيات ورؤيتها وأفكارها.
ويتجاوز د.مجدي ذلك لتكون روايته هي شهادته الشخصية حول التاريخ بما لا يسمح بشيطنة الناس ابطالها –حسب تعبيره هو نفسه- فهو هنا يؤكد على قيم الحرية والخير والشجاعة وكل ماقد توصف به ثورة عرابي. وهي لبنة أولى لإحداث شبيهه لما جربه بنفسه في ثورة يناير .
فيصبح مشروع الشافعي في النهاية مشروعا معتبرا لرجل وقف أمام طوفان من التغييرات والاحداث غير المسبوقة . والتي لا تتكرر كل يوم. فيقف ليقول كلمته بالطريقة التي قد لا يقولها غيره,فقد اختار الشهادة مرسومة ومقروءة .الشكل الذي يعيش لعقود و أجيال كثيرة ., حاله كحال نقوش الفراعنة التي تقضي الدهور وهي واقفة شامخة تحافظ على الوعي وتشهد بما كان.
مقالة بقلم:
إسلام الديهي