تحليل مضمونمضمون عالمي

«برميل بارود» على حدود أمريكا.. مخاوف من نزاع جديد يعجل بالحرب العالمية الثالثة

عززت الأزمة الروسية الأوكرانية المخاوف الدولية من إثارة حرب عالمية ثالثة، يكون طرفيها شرق وغرب أوروبا، تحتدم في مناطق عدة، على اطراف الكرة الأرضية، حيث مناطق النفوذ لكل حلف.

ذكرت مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية – في تقرير لها – “غير أن المعضلة التي ربما لا ينتبه إليها الكثيرون، هي أن برميل البارود الأقرب إلى الولايات المتحدة، ويعد أحد الاختبارات التالية في العالم، هو حدود فنزويلا وجمهورية جويانا التعاونية، حيث انخرط الجانبان في معركة مريرة حول منطقة متنازع عليها غنية بالمعادن تُعرف باسم (إيسيكويبو)”.

وتعود جذور النزاع إلى عام 1831، وهو العام الذي أعقب تحول فنزويلا لدولة ذات سيادة آنذاك، وكانت الإمبراطورية البريطانية تعزز أراضيها على طول الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، والتي اشترتها من هولندا في عام 1814، وكانت المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر “إيسيكويبو” من بين هذه الأراضي، وأصبحت جزءا من جويانا البريطانية.

وكانت إسبانيا قد طالبت سابقا ببعض من هذه الأراضي، لكن انشغال مدريد بحركات الاستقلال عبر أمريكا اللاتينية، منع السلطات الإسبانية من معارضة الاحتلال البريطاني للمنطقة.. ولكن بعد استقلال فنزويلا، ثم اكتشاف الذهب في (إيسيكويبو) في خمسينات القرن الـ19، حيث أثارت السلطات الفنزويلية مطالب بحقوقها هناك، ووصلت إلى حد قطع العلاقات الدبلوماسية مع المملكة المتحدة في عام 1887 حتى يتمكن البلدان من التوصل إلى حل وسط بشأن الحدود.

وفي عام 1897، اتفقت كل من فنزويلا وجويانا البريطانية على إحالة النزاع حول (إيسيكويبو) إلى محكمة دولية في باريس، تتألف من فقهاء قانون من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا.. وسمح حكم صدر عام 1899 لفنزويلا بالاحتفاظ بحوض نهر أورينوكو، في حين مُنحت جويانا البريطانية أكثر من 90% من أراضي الغابات الكثيفة بين نهري أورينوكو وإيسيكويبو، وتمثل تلك المنطقة اليوم حوالي ثلثي أراضي جويانا.

ولمدة ستة عقود، قبلت فنزويلا واحترمت حدودها مع جويانا البريطانية، بما في ذلك أثناء التفاوض على اتفاقية ثلاثية الأطراف لعام 1932 والتي تضمنت أيضا البرازيل، وأكدت الحدود الإقليمية للبلدين. إلا أنه في عام 1962، بعد أن أجرت المملكة المتحدة أولى المداولات الجادة حول استقلال جويانا، أعلن المسؤولون الفنزويليون أن حكم عام 1899 “باطل ولاغ” لوجود ما وصفته بـ”الأخطاء الإجرائية المحتملة” التي ظهرت على السطح بعد عقود، بما في ذلك اتهام بالتواطؤ بين الحقوقيين البريطانيين والروس.

وأعقب ذلك، “عسكرة” فنزويلا للمنطقة الحدودية -وفقا للمجلة الأمريكية- خاصة بعد استقلال جويانا في عام 1966.. وفي مواجهة ضغوط دبلوماسية هائلة لحل المسألة سلميا، وقعت حكومة جويانا الجديدة والمسؤولون في كاراكاس في نهاية المطاف على بروتوكول “بورت أوف سبين” عام 1970، ما وضع حدا اختياريا لنزاع استمر حتى عام 1982.

ولتجنب التصعيد بعد انتهاء صلاحية البروتوكول، بدأت الأمم المتحدة التوسط في التبادلات الدبلوماسية بين فنزويلا وجويانا.. وفي عام 1990، أنشأت الأمم المتحدة عملية “المساعي الحميدة” للتوسط في النزاع بين الطرفين، ولكن مع عدم تمكن الجانبين من التوصل إلى اتفاق بعد نحو ثلاثة عقود، أحال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش القضية إلى محكمة العدل الدولية في عام 2018، وماتزال هناك حتى اليوم.

وعلى الرغم من عدم حدوث أي جديد في القضية، إلا أن محكمة العدل الدولية أكدت في جلسة استماع عام 2020 أن الهيئة لديها سلطة متابعة والاستماع إلى الدعوى.. ومع ذلك، يعتبر الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أن اختصاص محكمة العدل الدولية “غير صالح”، لذلك لم تشارك بلاده في القضية، لاسيما وأن مادورو نفسه يواجه تحقيقا أمام المحكمة الجنائية الدولية.

ووفقا للمجلة، فإن مادورو يسعي إلى تجنب أي تحكيم دولي في الشؤون الفنزويلية، كما أن دعم الولايات المتحدة لدور محكمة العدل الدولية بهذا الصدد، خاصة في ظل العلاقات العدائية بين واشنطن وكراكاس، يلقي مزيدا من الشكوك حول العملية برمتها.

ويجب هنا الإشارة إلى أن حقول النفط في منطقة (إيسيكويبو)، التي اكتشفتها شركة إكسون موبيل عام 2015، قفزت بجويانا، وهي واحدة من أفقر دول نصف الكرة الغربي، لتنضم إلى مصاف أكبر أسواق الطاقة في العالم.. ونظرا لارتفاع أسعار الوقود بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أصبحت إمكانات التصدير في جويانا موضع تركيز، حيث اجتذب النفط الخام الخفيف هناك مستثمرين كثيرين بمعدلات استخراج متوقعة ستجعل جويانا من أعلى منتجي النفط في العالم بحلول عام 2035.

وفي هذا الإطار، تثار مخاوف من تطلعات رئيس فنزيولا -وفقا لفورين بوليسي- بـ”إعادة غزو” إيسيكويبو، مستغلا الأحداث بين روسيا وأوكرانيا، ومعتمدا على دعم روسي، حيث ساند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لفترة طويلة حكومة كاراكاس، وساعد أحد أكبر منتجي الطاقة في أمريكا اللاتينية على توزيع وبيع النفط الخاضع للعقوبات، إلى جانب توفير الحماية الشخصية لمادورو ضد أي محاولات اغتيال مع إرسال عتاد عسكري لكاراكاس، كما نشر بوتين في الماضي قاذفات روسية ذات قدرة نووية في فنزويلا، وطرح فكرة إرسال قوات روسية إلى البلاد تحت مسمى “تعزيز سيادتها”.

واعتبرت المجلة الأمريكية أن دعم بوتين وتحديه للمعايير الدولية يمكن أن يعطي أجنحة جديدة لطموحات مادورو الإقليمية في شرق القارة، خاصة وأن المخاوف ذات الصلة ضد كولومبيا وجويانا كانت في تصاعد قبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.. وما يدلل على ذلك، هو أنه في عام 2013، اعترضت البحرية الفنزويلية سفينة أبحاث ترفع علم بنما قبالة ساحل جويانا.

وفي عام 2018، أرسل مادورو أسطوله البحري لمقاطعة عملية استكشاف لشركة إكسون موبيل في مياه جويانا.. وفي العام الماضي، احتجزت البحرية الفنزويلية زورقي صيد من جويانا لأسابيع، فيما تم إرسال طائرات مقاتلة على طول الحدود هناك.

وتعهد مادورو بـ”إعادة غزو” إيسيكويبو، وأصدر المراسيم في عامي 2015 و2021 لتأسيس الحدود البحرية الفنزويلية، التي تشمل المنطقة الاقتصادية الخالصة لجويانا، ونشر التعزيزات العسكرية بشكل متكرر على الحدود المتنازع عليها منذ عام 2015.. وفي عام 2021، صدر بيان مشترك حول مطالبات فنزويلا باتجاه الشرق من قبل مادورو والمعارضة، وهو ما يمثل نقطة اتفاق نادرة بين القوى السياسية المتناحرة في البلاد.

ورأت المجلة الأمريكية أن الإدانات الفاترة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا من بعض قادة أمريكا اللاتينية، بما في ذلك رؤساء أكبر اقتصادات المنطقة (البرازيل والمكسيك)، تركت الباب مفتوحا أمام مادورو لمتابعة مطالبات كاراكاس المتعلقة بإيسيكويبو بكل قوة.

وعلى الرغم من زيادة التعاون الأمني بين الولايات المتحدة وجويانا، إلا أن الخطاب والتدريب الأمريكيين بالكاد عززا موقفها، فعلى عكس الجيش الأوكراني جيد التسليح، ليس لدى جويانا سوى عدد قليل من زوارق الدوريات للدفاع عن المياه الإقليمية هناك، كما أنها ليست من الدول الموقعة على معاهدة الدول الأمريكية للمساعدة المتبادلة، ما يعني أنه من غير المرجح أن تدافع دول أخرى في أمريكا الجنوبية عن جويانا عسكريا حتى لو رفضت أي إجراء يتخذه مادورو.

ورأت المجلة الأمريكية أن أي تدخل عسكري عبر الحدود في حوض البحر الكاريبي ليس نتيجة مفروغ منها، حيث يمكن أن يساعد ارتفاع أسعار النفط مادورو في العثور على عملاء جدد على استعداد للالتفاف حول العقوبات الأمريكية على صناعة النفط في فنزويلا، وإنعاش الخزائن الحكومية الفنزويلية، كما أن مادورو قد يشعر بضغوط أقل إذا كان قادرا على تلبية المطالب الشعبية.

ويتطلب منع الصراع حول “إيسيكويبو” على المدى الطويل تكثيف مثبطات أي عدوان فنزويلي محتمل عبر الحدود، حيث يعتبر الدعم الدبلوماسي لعملية محكمة العدل الدولية “نقطة انطلاق جيدة”، وكذلك التزام الجماعة الكاريبية بالحفاظ على وحدة أراضي جويانا.

واعتبرت أنه من الأفضل أيضا لدول الكاريبي التي لديها مصالح نفطية بحرية خاصة بها، بما في ذلك سورينام وترينيداد وتوباجو وجامايكا وبربادوس، أن تقدم اعتراضها على أي محاولات ذات صلة لمادورو، وتذكيره بأن تصويتها أو امتناعها عن التصويت في المنظمات الدولية لصالحه عزز منذ فترة طويلة الشرعية الدولية لإدارته، ولكن هذا الدعم ليس “شيكا على بياض”.

وأضافت أنه ينبغي أن يركز تعاون جويانا الأمني مع الحكومات الأخرى في أمريكا الجنوبية ومنطقة البحر الكاريبي في الحصول على أسلحة دفاعية، وتكنولوجيا المراقبة، وقوارب دوريات.. وبدون شك، سوف تستفيد جويانا من تعاون أعمق مع كولومبيا، التي تتمتع بخبرات في مجال الأنهار وتجربتها في التعاطي مع الاستفزاز الفنزويلي الروتيني.
وعلاوة على ذلك، ينبغي لاستثمارات الصين في صناعة النفط في جويانا أن تجعل مادورو يفكر مليا بشأن أي تصعيد تجاه جويانا خشية أن يعرض علاقته مع الصين، أكبر مانح في فنزويلا، للخطر.. وتحقيقا لهذه الغاية، يمكن للصين استخدام نفوذها الكبير في كلا البلدين لدفع تسوية دبلوماسية حول إيسيكويبو.

ورأت المجلة أنه يجب على الولايات المتحدة، بدورها، توظيف والاستفادة من العزلة الدولية المتزايدة لروسيا لإغراء مادورو بترتيبات دبلوماسية واقتصادية جديدة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن وفد البيت الأبيض الأخير إلى كاراكاس دفع مادورو إلى إطلاق سراح سجينين سياسيين أمريكيين، واستئناف الحوار بهدف حلحلة الجمود السياسي في فنزويلا.. ومع ذلك، هناك حاجة إلى تنازلات إضافية من مادورو قبل أن تتخذ الولايات المتحدة خطوات لإعادة توجيه العقوبات على صناعة النفط الفنزويلية، ويجب هنا التركيز على مسائل، كالتخفيف من الأزمة الإنسانية طويلة الأمد في فنزويلا، وإحراز تقدم نحو استعادة الديمقراطية هناك.
ورغم ذلك، فإن إعادة الاندماج المحسوب لفنزويلا في الأسواق العالمية يمكن أن يخلق نفوذا جديدا للولايات المتحدة وشركائها لإثناء كاراكاس عن إثارة الحروب في إيسيكويبو، لكنه ربما يخلق أيضا تصدعات بين موسكو وأقرب حليف لها في أمريكا اللاتينية (فنزويلا).

وهناك نظرية في العلاقات الدولية ترى أن اللاعقلانية المتصورة لزعيم وطني وعدم القدرة على التنبؤ يمكن أن تحسن الموقف التفاوضي لبلد ما في العلاقات الخارجية، حيث تخشى الدول الأخرى من استعداء رئيس دولة يشكل خطرا محتملا.. ولكن، بما أن مادورو يتبع التقلبات كسياسة عامة، فيجب التعامل مع تهديداته تجاه جويانا بشأن إيسيكويبو في إطار شكلي، حيث أن القيام بخلاف ذلك من شأنه أن يضر بالواقع الحالي ومصالح السلام والاستقرار في الأمريكتين.

زر الذهاب إلى الأعلى